في عالم تشوبه الغرابة وتلفّحه الصلابة، تتغلغل بين أضلاعه التكنولوجيا، وتهزّ كيانه الجيولوجيا، عالم يؤرّق الرأفة والحب، فيقيم له وليمة للصلب، أعلن قلمي بإصرار، بأنه مُقدم على الانتحار .
منذ ستّين يوما ونيّف، عندما كتب قلمي نعوة نفسه ونشر خبر انتحاره، وأنا أبحث وأفتّش بين القراطيس والأفكار، متمنيا، علّي أجد دافعا يعيد له نبض الحياة، يحزّ في نفسي أراه ملتوي العنق، قد ركن نفسه في زاوية من النسيان، في ركن مظلم رافضا العودة للحياة، وإذ بقصاصة ورق كتب عليها (لأن لي قلب محب، أحب الحياة وأحب العدل وأحب الناس، قررت أن اتخذ الصمت طريقا ).
عندما جاء الشهر الكريم، تدفقت الدماء ببنات أفكاري، وما زلت أنظر إليه، في هذا الشهر المبارك الكثير مما يمكن ويجب الكتابة عنه، هزّ برأسه رفضا وزاد على ما كتب على قصاصة الورق ( في كل عام يأتي رمضان، كل عام ونحن نكتب عن الرحمة والمحبة والوفاء والإخلاص والعدل، ولكن يزداد الظلم والكراهية ونقض الوعود والعهود وتزداد الخيانة والأنانية، في كل عام يغتالون السلام عند بزوغ الفجر من ليلة القدر )، لم أستطع أن أُنكر عليه عباراته، فقد تناهت إليّ أخبار ذوي المناصب والمقامات وأصحاب النفوذ، الذين ينفذون لخزائن البلاد وجيوب العباد، وهم يقيمون مآدب الإفطار الباهظة والسهرات الباذخة، فيما أثقلت عليهم أوقاتهم العصيبة، فلم يعد يسعهم زيارة المنكوبين أصحاب المصيبة من أرامل وأيتام، الذين أمسوا خارج خارطة الحياة الكريمة .
بينما يتأهب الناس لاستقبال العيد، استرقيت النظر إلية ثانية والأمل يحذوني بأن نتصالح لنشارك الآخرين فرحة العيد ببضع كلمات، ولكن الأمل سقط متعثرا بتعنّته ورفضه، وأضاف كلمات على تلك القصاصة (أضحى العيد روتينا مبرمجا بكلمات ومفردات وتصرفات اجتماعية، تآلفنا عليها، أضعنا مغزاها وأسقطنا فحواها، لأني أحب العيد وأحب أن أرى الفرح في عيون الأطفال وفي نبرات صوت الأمهات وفي امتداد شموخ الشيوخ، لن أكتب عن شيء مصنّع لا حياة فيه).
لست أدري كيف أُعيد قلمي للحياة، نحن نتمتّع بقدرة فائقة لقتل كل ما ينبض بالحياة بالأمل بالبهجة بالحب، لقد أصبحنا بشر على الطريقة الآلية في تحسس الذبذبات التي ترتد بالمنفعة إلى أجهزتنا الظمأى للزيت والوقود .
لست أدري، هل نحن أمة تجهل كيف تحب ؟! وهل عندما نحب، لا نحب إلا أنفسنا ؟! في هنيهات على أطراف الثواني، أحالتها المصالح والأهواء والمنافع لنقمة كبرى، عندما اختزلت هذه الأمة تلك القدرة في حرفين أولهما مكرر يخنقان بينهما نون ( أنا ).
عندما أتطلع في عيني طفل فلسطيني يبحث عن فرصة للحياة بين أنقاض الحياة، يفتش عن فرح في خيمة حزن وترح فتضل الطريق به، أدرك عندها جيدا، معنى قدرة البشر على الحب، تلك النعمة الكبرى التي منّ الله سبحانه علينا بها.
قلمي، أيها المسكين، ما جدوى الكلام وسط بشر أصمّ، ما جدوى الشِّعر بلسان أبكم وما جدوى الجمال لناس عُمْي. قد أغفر لقلمي انتحاره، وإذا كانت هناك وصفة لحل عقدة قلمي وإعادته للحياة فليخبروني بها.
وكل عام وأنتم بخير
عمر رزوق الشامي – أبوسنان
عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتّاب الفلسطينيين الكرمل 48