أعادت قصة احتجاز جثة الشاب الديلاوي تيران فرّو إلى واجهة الإعلام ولو بشكل مؤقت، للأسف الشديد، قضية إحتجاز رفات مئات الشهداء الفلسطينيين والعرب في قبضة السلطات الإسرائيلية، وهي قضية في غاية الأهمية وقمّة في الإنسانية من الجانب العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا ، وهي في الحضيض الأخلاقي من الجانب الإحتلالي الإسرائيلي. وقد تسنى لي خلال مسيرتي الصحفية ان عالجت وتابعت ملف هذه القضية في العام ١٩٩٣ من خلال تقرير موسع عن الموضوع ارتباطًا بما يسمى"مقابر الأرقام" وهي المقابر التي تحتجز فيها سلطات الإحتلال الإسرائيلي رفات الشهداء الفلسطينيين والعرب الذين سقطوا خلال مواجهات مع الجيش الإسرائيلي. وتطلق اسرائيل على هذه المقابر اسم"مقابر شهداء العدو"( בית קברות לחללי אויב).
كان لقائي الأول مع هذه القضية في تموز وآب ١٩٩٣، عبر صحيفة " الاتحاد" والثاني في يناير ٢٠٠٤ والثالث سنة ٢٠١٢ وكلاهما عبر صحيفة " الصنارة"...
والقصة الأبرز هي في ١٩٩٣. يومها ( الجمعة - ٢٣/تموز/١٩٩٣) نشرت اسبوعية "كول بو" الحيفاوية تقريرًا عن انتهاك حرمة مقبرة الشهداء - الأرقام في منطقة جسر بنات يعقوب على الحدود السورية وذلك من قبل الحيوانات البرية التي كانت تنبش القبور وتنثر عظام أجساد الشهداء في المقبرة وحولها. وانتدبتني صحيفة "الاتحاد" حيث كنت أعمل محررًا فيها آنذاك، للقيام بإعداد تقرير موسع عن الموضوع ومتابعته ميدانيًا، وكانت "الاتحاد" إحدى وربما الصحيفة الأولى التي كشفت عن وجود هذه المقبرة في سنة ١٩٨٣ بعيد الحرب العدوانية الإسرائيلية على الشعبين اللبناني والفلسطيني.
وفعلًا بدأت التحضير لزيارة المقبرة وتقصي الحقيقة حول حالتها. ولأن المقبرة ومحيطها تعتبر منطقةً عسكرية فقد التجأتُ الى كتلة الجبهة البرلمانية وبالذات الى النائب الراحل هاشم محاميد كونه هو ايضًا تابع قضية وجود هذه المقبرة وغيرها. واجريت معه لقاءً حول الموضوع نُشر يوم الأحد ٩٣/٧/٢٥ اي بعد يومين من النشر في "كول بو" وفي ضوء ذلك النشر.. ورتبتُ معه موعدًا لزيارة ميدانية في موقع المقبرة. ولم تطُل مدة انتظارنا سوى لأيامٍ معدودات. ففي يوم الجمعة ٣٠ تموز توجهتُ برفقته الى موقع المقبرة، الواقع في الزاوية الفاصلة بين جسر بنات يعقوب والشريعة وهي منطقة قريبة من موقع التزلج على الماء، وشاهدنا كيف تحترم اسرائيل وجيشها المتنور حقوق الإنسان حيًّا وميتًا، وكيف تعبث الكلاب الضالّة وبنات آوى بعظام الموتى وكيف يتسيّد الإهمال في منطقة المقبرة المحاطة بسلك حديدي صدِئ، وشواهد القبور عبارة عن أعواد خشبية والواح منصوبة عليها كُتبت أرقام من واحد الى ٣٤١ (ارتفع العدد الى ٣٦٦ قبرًا وذلك خلال الفترة من زيارتنا المقبرة حتى الانتهاء من إعداد التقرير ) لنعرف لاحقًا انه ليس بالضرورة ان يرقد في القبر الواحد شهيد واحد ، فربما إثنان وربما أكثر، وتتبعثر أشلاؤهم بين الأرقام . ذلك أن عملية الدفن تتم بعد حفر القبر بعمق ٢٠ الى ٣٠ سنتيمتر فقط ويُكفّن جثمان الشهيد في كيس نايلون وأحيانًا لا يحظى بهذا التكريم ويدُفن من دون تكفين ودون أي مراسم دفن تليق بالإنسان، أي إنسان..
اجريت عدة إتصالات في الأيام والأسابيع التي تلت تلك الزيارة كي استوفي كل أو غالبية الأسئلة التي أثرتها مع الناطق بلسان الجيش والجهات العسكرية المختصة القائمة على إنشاء المقبرة ورعايتها، بل عدم رعايتها. وكانت ايضًا اتصالات بجهات دينية إسلامية ويهودية في محاولة لتأمين وضمان مراعاة الدفن حسب الأصول الدينية واحترام كرامة الموتى.
كما تابع الراحل هاشم محاميد القضية على الجانب البرلماني وطالب بطرح القضية على جدول الأعمال ورفضت رئاسة الكنيست ذلك، لكنه بعث باستجوابات لوزارة الأمن بهذا الخصوص.
ونجحنا بعد متابعات في ان نضمن على الأقل ، حسب ردود سلطات الجيش، ان يتم الدفن بوضع الجثة في صندوق خشبي وليس في كيس نايلون وان يكون الحفر أعمق وبذلك نمنع الحيوانات من الحفر وافتراس أجزاء من الجثث وقامت سلطات الجيش بوضع شريط إضافي وبوابة حديدية مع قفل.
ولم اترك الموضوع هنا بل تابعت البحث والسؤال عمّا إذا كانت هناك مواقع أخرى يُدفن فيها الشهداء العرب والفلسطينيون ممّن تحتجز اسرائيل الديمقراطية جثثهم ولا تُفرج عنها الاّ مُرغمة. فتبيّن ان هناك موقعين آخرين أحدهما قرب بيسان وآخر في منطقة الأغوار المحتلة. وبعد عملية تبادل الأسرى بين اسرائيل وحزب الله في يناير ٢٠٠٤ وإخراج عدد كبير من رفات الشهداء الفلسطينيين إضافةً الى كل اللبنانيين وبعض العرب، نقلت سلطات الجيش مَن تبقّى من الشهداء الى مقبرةٍ جديدة تم استحداثها خصيصًا في موقع "عميعاد" في الجليل الأعلى بالقرب من قاعدة عسكرية للجيش الإسرائيلي.
واليوم ، لا تزال اسرائيل تحتجز اكثر من ٣٨٠ جثة لشهداء فلسطينيين وأكثر من ٨٠ منهم في الثلاجات، في خطوةٍ هي بمثابة عقابٍ جماعي للشهداء ولعائلاتهم جراء مقاومتهم الإحتلال، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تعاقب الأحياء والأموات على حدّ سواء..
مرفق صور للتقرير الذي نشرته في "الاتحاد" يوم ١٩٩٣/٨/٣٠...
المادة المنشورة على مسؤلية كاتبها وضمن حرية التعبير عن الرأي حيث أن موقع البرج يفتح المجال أمام الموهوبين في شتى المجالات بعرض مواهبهم عبر منبره الإعلامي ولكنه غير مسؤول عن إبداء الرأي، فحوى ومضمون المادة المنشورة والتي لا تمت بأية صله لا به ولا بمسؤوليه إلا بعلاقة النشر ضمن صفحاته.